العالم من حولي

من الكهوف والجبال إلى آمال العودة للديار بين نازحي الحرب اليمنية

على الهامش من ريف تعز الغربي، أكثر من أربعين أسرة اتخذت من كهوف جبل “الروي” في عزلة “المشاولة” بالمعافر، ملجأ آمنًا لها. هربت هذه العائلات من المواجهات المسلحة بين طرفي الحرب التي شردتهم من قريتهم “السحيحة” في منطقة الكدحة، نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول 2017، فاستقر بهم الحال في منطقة “الأسدوح”، عزلة “المشاولة” التابعة لمديرية المعافر نفسها. وعلى الرغم من أن الحرب لم تقذف بهم بعيدًا، إلّا أنها علّقتهم على رأس جبل.

على مدى أربعة أعوام، تسكن هذه الأسر تحت صخور الجبل ومغاراته المتباعدة، لتعيش حياة بدائية تمامًا كما عاش الأجداد في العصور الوسطى. المكان يفتقر لأبسط إمكانيات العيش الأساسية، فالمسكن هنا عبارة عن كومة من الأحجار فوق بعضها، توضع لسد جانب من الكهف، وتبقي الجزء الآخر على شكل فتحة الباب، هذه الأحجار لا تقيهم البرد ولا المطر، ولا أفاعي وحشرات هذا الجبل.

تأوي النساء والأطفال إلى هذه الكهوف وسط خطورة بالغة، أما الرجال فغالبًا ما ينامون في الهواء الطلق. كانوا قبل أن تشردهم الحرب، يعملون في الزراعة وتربية الحيوانات، حيث شكلت المصدر الرئيسي لدخلهم اليومي. أما بعد النزوح فوجدوا أنفسهم عاجزين عن القيام بأعمال أخرى سوى رعي المواشي المتبقية لهم، والتي أصبحت مهنتهم الوحيدة.

يقول الحاج أحمد علي قائد، لخيوط: “نحن نازحون من منطقة السحيحة كدحة إلى المشاولة، جالسين هنا ولا معنا شيء؛ لا ماء ولا غذاء ولا طريق تصل إلينا، ومعي تسعة أطفال. كنا مستقرين ونعمل بمزارعنا، لكن بعد خروجنا من القرية لم نستطع القيام بأي عمل، فقط نربي المواشي. الأمطار والبرد والريح والشمس كل هذا فوقنا وفوق أطفالنا، لا معنا مأوى ولا فِراشات ولا شيء، عايشين بهذه الكهوف تحت الصخر، وإذا جاء مطر نبقى تحتها”. بيع المواشي أصبح يوفر لهم جزءًا من قيمة الغذاء اليومي إلى جانب المساعدات الشحيحة والنادرة للمنظمات وبعض المتبرعين. أما التنقل فيضطرون لحمل المرضى على تابوت خشبي (النعش؛ محليًّا) للوصول إلى أقرب منطقة تصل إليها سيارات الدفع الرباعي، ثم يواصلون طريقهم لما يزيد عن 10 كيلو متر، إلى أقرب مركز صحي.

يضيف أحمد علي: “المنظمات لا تصل إلينا، مثل ما شفت الطريق صعبة ووعرة، والذي يمرض عندنا نحمله حمل على النعش إلى أقرب سيارة، والتي تلد من النساء نحملها، ومرات كثير يموت الجنين قبل أن نصل للمستشفى”.

نساء من حديد

وجوه النساء هنا أضحت تقاسم هذه الجغرافية الوعرة تفاصيلها وتشاركها البؤس. نساء بلا غذاء ولا مأوى أو حماية. العراء وأحجار الجبل أصبح مأوى إجباريًّا، حيث كان لهن القسم الأكبر من العناء، كبقية نساء اليمن حين وجدن أنفسهن يدفعن فاتورة حرب ليس لهن فيها ناقة ولا جمل.

منذ نزحت عائلاتهن يعملن بشكل متواصل وسط ظروف وبيئة غير آمنة، ومع انعدام الخدمات الصحية تزيد هذه المخاطر. فالنساء الحوامل يصبحن معرضات للموت مع أجنتهن أثناء الحمل، وعند الولادة يواجهن قدرهن؛ إما ولادة طبيعية أو النزف الذي يستلزم تدخلًا طبيًّا، وقد يعرض حياة الأم للموت. الأمر الذي يجعل الأهالي يحملون نساءهم عند تعسّر المخاض على التابوت (النعش) مسافة خمسة كيلو مترات، وعند حدوث أي تأخير، تحدث لهن مضاعفات، قد يفقدن بسببها حياتهن أو حياة الجنين.

حدث ذلك مع الشابة كريمة أحمد، التي تختزل معاناة النساء هنا. فهي من النساء التي مسّها الفقد وحرمها هذا المكان طفليها بعد محاولاتها في أن تصبح أمًّا. تقول كريمة لـ”خيوط”: “أسقطت اثنين من أطفالي أثناء الولادة”، والإسقاط، باللهجة اليمنية، مرادف للإجهاض.

وتضيف كريمة: “عندما تعسرت الولادة حملوني على التابوت (النعش)، ووصلنا المستشفى وقد مات الجنين. مرتين حصل معي هذا، والدكاترة حذروني أنه إذا سقط الجنين في المرة الثالثة، سأكون غير قادرة على الحمل”.

المواطن ثابت بلول: “أطفالنا الآن أصبحوا من عمر 12 و13 سنة، ولم يتعلموا. صعب يتعلموا بعد هذا العمر. ابني كان يشتي يتعلم، لكن أقرب مدرسة لنا على مسافة 12 ساعة مشيًا على الأقدام، وصعب يروح يتعلم بها كل يوم، رجعت خليته يرعى الغنم”
أطفال بلا تعليم

التقيت الطفل علي خالد (13 سنة)، قرب المكان الذي يجلب منه الماء. يبعد المكان عن تجمع الأهالي أكثر من خمسة كيلو مترات، يقطعها علي مرتين يوميًّا من خلال طريق شديدة الوعورة، لجلب الماء أو الغذاء على ظهر الجمل.

رافقت علي في هذه الطريق الوعرة، نحو قمة الجبل. هو اعتاد الاستيقاظ الساعة في السادسة صباحًا، في رحلتي كفاح تستغرقان 12 ساعة يوميًّا لجلب ماء الشرب فقط. تنتهي الأولى في الثانية عشرة ظهرًا، لتبدأ الثانية حتى السادسة مساءً. لم يلتحق علي بالمدرسة ولا يطمح لذلك، فهو لا يمتلك فكرة عن حروف الهجاء بعد.

علي ليس الوحيد الذي لم يلتحق بالمدرسة، فهنا أكثر من 50 طفلًا في سن التعليم، لم يلتحقوا بالمدرسة، وهم جزء من إجمالي 840 طفلًا غير ملتحقين بالتعليم في مخيمات مديرية المعافر، بحسب إحصائيات الوحدة التنفيذية للنازحين بالمديرية.

كما يعمل الأطفال في المخيم لأوقات طويلة مشاركين الآباء، إما في رعي المواشي أو جلب الماء، في ظروف قاسية صنعت منهم كهولًا في سن مبكر.

ثابت محمد بلول، يختصر ما فعلته الحرب بالرجال في اليمن، كما يختصر جنايتها على فئة الأطفال الذين كانوا في عمر الالتحاق بالمدرسة عندما اندلعت وشردت الصغير والكبير.

يقول ثابت في حديثه لـ”خيوط”: “كنا في بلادنا مزارعين وعمّالًا ونقضي كل حاجاتنا، لكن الآن شوفوا أين وصل بنا الحال؟ داخل كهوف، والأطفال لا دراسة ولا صحة ولا غذاء، أطفالنا الآن أصبحوا من عمر 12 و13 سنة، ولم يتعلموا. صعب يتعلموا بعد هذا العمر. ابني كان يشتي يتعلم، لكن أقرب مدرسة لنا على مسافة 12 ساعة مشيًا على الأقدام، وصعب يروح يتعلم بها كل يوم، رجعت خليته يرعى الغنم”.

لم يجد الأهالي خيارًا آخر سوى هذه المغارات والجبال للعيش بعد أن حرموا من الحصول على مكان أفضل للعيش عندما أصبحت المواشي هي المصدر الأساسي للحصول على الغذاء.

يضيف ثابت بلول عن رحلة نزوح الأهالي: “في البداية انتقلنا لمخيم قريب للخدمات، لكن خرجنا من المخيم؛ لأنه معنا مواشي وما نقدر نرعاها هناك، ولأن الأرض لأصحاب القرية وفيها زراعتهم، ما قدرنا نبقى هناك، ولأن المواشي هي مصدر رزقنا الوحيد، وما نقدر نتخلى عنها، فرجعنا هنا من جديد نرعي بالجبل”.

رفض الأهالي التخلي عن المواشي والرعي، وهي التي أجبرتهم على مغادرة مخيمات النزوح، بعيدًا عن أراضي المواطنين الزراعية، بحثًا عن مراعٍ خاصة بهم.

في حديثه لـ”خيوط”، يقول بسام الحداد مدير الوحدة التنفيذية بالمعافر: “تجمّع “الأسدوح” (حيث يقيم هؤلاء الأهالي داخل الكهوف)، هو أكثر تجمع يعيش ظروفًا صعبة ولا يزال مستثنى من الكثير من الخدمات بسبب بُعده عن مراكز تقديم الخدمات. لا توجد وحدة صحية قريبة منهم ولا مياه ولا مدرسة بسبب بُعده عن طرق المواصلات، لذلك لا تستطيع المنظمات الوصول إلى هذا التجمع، فالنازحين احتياجاتهم مستمرة وبشكل طارئ، كالغذاء والإيواء والحماية والمياه والإصحاح البيئي”.

ويبدي الحداد أسفه، لكون وحدته غير قادرة على الوصول المستمر إلى النازحين في منطقة “الأسدوح”، فهم بحسب تعبيره، “ارتبطوا بمصالحهم قبل النزوح؛ لأن مسألة الرعي والمواشي والاحتطاب، تحتاج مناطق مفتوحة، لذلك فضلوا أن يبقوا بعيدًا عن باقي المخيمات”.

ويضيف: “كنا بحثنا لهم عن بدائل قريبة تمكننا من الوصول إليهم، لكنهم أصروا على أن يكونوا في منطقة بعيدة، في رأس جبل الروي. حتى المواصلات لا تصل إليهم، وحينما نزورهم نقطع بعض المسافة بالسيارة والجزأ الآخر نقطعه مشيًا على الأقدام، لذلك لا تصل إليهم الخدمات كالصحة والمياه”.

وتبقى معانات النازحين قائمة في المعافر، المديرية التي مثلت ملاذًا آمنًا للنازحين منذ اندلاع الحرب. وبحسب إحصائيات الوحدة التنفيذية للنازحين، فالمعافر تستضيف 3500 أسرة نازحة في المنازل، و1500 أسرة في المخيمات، موزعة على تسعة تجمعات رئيسية وأربعة تجمعات فرعية صغيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر محفوظة