جامعتي

تونس: ما بين تعطيل عمل المؤسسات وتعيين نجلاء كأول رئيسة حكومة بالمنطقة

بقلم عدنان هريوى، باحث مساعد بالمركز العربي للأبحاث.

في التاسع والعشرين من شتنبر من سنة 2021، عُيّنت نجلاء بودن كأول امرأة على رأس جهاز حكومي بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط بعد شهور من الفراغ السياسي داخل المشهد التونسي وذلك بعد إقدام الرئيس التونسي، بناء على الفصل 80 من الدستور، على إيقاف عمل كل من المؤسستين التنفيذية والتشريعية نتيجة ما أسماه “تهديدا” يحيط بتونس. وبين القرارين سالفي الذكر، دخل المجتمع الشرق أوسطي والشمال إفريقي في دوامة من التساؤلات لعل أبرزهاذلك المرتبط بالارتباك بين “المراقبة بقلق” لقرار التدخل، و”فتح باب أمل جديد” متعلق بقرار التعيين. وربما قد يكون الجميع قد طرح السؤال التالي: هل نفرح لتعيين أول رئيس حكومة من العنصر النسوي في العالم العربي أم نحزن لقرار قيس سعيد الذي أصاب “الأنموذج التونسي”، الناجي الوحيد من انزلاقات الربيع العربي، بصدمة بنيوية أوقفت عمل الأجهزة التمثيلية والسيادية التونسية؟

ربما سيكون من غير العادل قول إن تونس تخص التونسيين وحدهم. ولا يقصد هنا أن تونس أضحت ورقة جيوسياسية في يد بعض الفاعلين الإقليميين، ولكن “تونس”، مهد الربيع العربي ومثاله الوحيد “الصامد” لكي لا نستعمل لفظ “ناجح”، أصبحت استدلالا وتعليلا لفكرة مفادها أن “الربيع العربي” كان من الممكن أن يوّلد نتائج إيجابية في حالة ما كانت الدولة، بمفهومها البعيد عن النظام السياسي، تمتلك مؤسسات قائمة ومستقلة تسمح بحماية وتأمين عملية الانتقال من مرحلة “ما قبل” إلى مرحلة “ما بعد”، أي أنها تضمن عدم انزلاقها نحو ما نسميه “مرحلة الضياع والمجهول”. وربما لو سألت المواطن السوري والليبي واليمني عن انتظاراتهم حينما خرجوا للشارع في بدايات المظاهرات فسيكون الجواب مليئا بالأمل والشوق للقادم، ولكن بعد سقوط أنظمة وصمود أخرى وتغير المعطيات، استبدل الأمل بالألم والمستقبل بالوردي بنظيره الأسود والمجهول. وأصاب المواطن نفسه صدمة وجودية لاستحالة العودة وصعوبة تحديد معالم المستقبل. ولهذا السبب نقول إن تونس لم تعد ملكا فقط للتونسيين. فهي جزء من ذلك المستقبل الوردي وخيط الأمل والحائط الصامد أمام انتكاسات ما بعد الربيع العربي والثورات المضادة.

في الواقع، قد لا نختلف مع من اعتبروا في تونس مثالا يحتذى به على المستوى السياسي، ولا نختلف مع من رأى في تونس نموذجا مشوها للنجاح ما دام الشق الاقتصادي والتنموي لم يتحسن لا على صعيد المؤشرات ولا في تجليات الواقع المعيش. فالنظرة الشاملة للأمور هي التي تعطي فكرة متكاملة عن حقيقة الأوضاع. وبما أن الحقيقة نسبية، وزاوية الرؤية تزيد من نسبيتها أكثر، فمن غير المنطقي أن نحصر مثال تونس في تقوقع واحد ونترك الآخر بدون تحليله وتبيانه. لهذا، فمقاربتنا تقبل بالموقف “المثال” للتجربة السياسية التونسية، وللموقف “المقلق” للضعف التنموي الاقتصادي. وبين الإثنين، طرح المواطن العربي سؤالا بسيطا عن سبب عدم دمج “النموذج التونسي” للإثنين معا؟ هل الديمقراطية تحول دون تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة؟ وإذا ما سعينا نحو ازدهار ورفاه واستقرار اقتصادي، هل سيجعلنا هذا نتخلى عن حقوقنا الطبيعية على مستوى الحريات بأنواعها؟

لهذه الأسباب، تظل التجربة التونسية بمثابة إشكالية نوعية مقارنة بنظيراتها في العالم العربي. لقد ساهمت بشكل كبير في تدقيق وتفصيل التساؤلات المنبثقة عن تجربة “الربيع العربي”. فربما ما كان المواطن سينتبه لثنائية الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لو لم يتجسد أمامه مثال حي لتضارب الإثنين وتفاعلهما داخل إطار جغرافي واجتماعي محدد. وعليه، استمرت عملية طرح الأسئلة والاستفسارات بحثا عن تفسير وشرح لهذا التباين للأنموذج التونسي. وسعت مراكز الأبحاث العربية والأجنبية إلى تقديم تقارير وعرض خلاصات طيلة العقد المنصرم في سبيل إعطاء رؤية واضحة وشاملة عن حقيقة الأوضاع. فمنهم من اعتبر أن الأمر طبيعي بحكم أن تونس تعرف مرحلة انتقالية، ومنهم من اعتقد أن العالم العربي محتوم عليه الاختيار بين ة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، وأغلق كل سبل إمكانية تفاعل الإثنين داخل منظومة مجتمعية واحدة.

في هذا الإطار، طرِح طرحٌ بديل حاول رسم خارطة طريق تعمل على ربط الديمقراطية بنظيرتها التنمية الاقتصادية. ففي تقرير المنطوي تحت غطاء “أكاديمية ابن رشد”، قدم المركز العربي للأبحاث المغربي أولى نتائج بحثه عن الرهان المؤسساتي في العالم العربي بعد عشر سنوات على ااندلاع ما يسمى “الربيع العربي” في مدينة مراكش في يوليوز 2021 بفندق آدم بارك. وخلص فريق البحث إلى أن البنية المؤسساتية الاقتصادية والسياسية كانت السبب وراء فرملة عملية الانتقال الديمقراطي وتعزيز التنمية الاقتصادية ببلداننا العربية. فإذا كان الاستثناء هنا مرتبطا في المقاربة المتبعة في البحث، أي أنها ثنائية من ناحية المبدأ، فالنتيجة المتوصل إليها تظهر أن تحقيق التنمية المستدامة وضمان عملية انتقال ديمقراطي سليمة وسلسة مرهون بالأساس بتوفير بنية مؤسساتية قوية وصلبة قادرة على الصمود في المراحل الانتقالية بشكل أساسي.

فبالرجوع للحالة التونسية قبل 2021 والتي كانت تتميز بسلاستها الانتقالية النسبية من مرحلة “ما قبل بن علي ” إلى “مرحلة ما بعد بن علي”، وأخذا بعين الاعتبار طرح تقرير “أكاديمية ابن رشد” أعلاه، ظلت رغم ذلك بعض النواقص حاضرة في المشهد الانتقالي وبقيت تتراكم وتزداد حتى جعلت البعض يفكر في أن تونس خسرت ما حققته بعد قرار قيس سعيد المرتبط بتعطيل عمل المؤسسات التمثيلية ورفع الحصانة عن البرلمانيين. فالحلقة الناقصة والتي غيبت في غالبية التحاليل متعلقة بالأساس بغياب إحدى أهم المؤسسات المستقلة في المنظومة القانونية التونسية. فمنذ إصدار الدستور الجديد، غابت المحكمة الدستورية عن الترسانة القانونية التونسية. ولأن هنالك أسباب للغياب وليس سبب واحد، فمن الطبيعي، حسب رؤية قانونية، أن يكون لهذا الأخير آثار جمة على الواقع السياسي والاجتماعي التونسي.

في الواقع، ظهرت الحاجة لهذه المؤسسة القضائية المحورية بعد قرار الرئيس التونسي قيس سعيد المذكور أعلاه. لقد كان المواطن التونسي خاصة، والمواطن العربي عامة، في حاجة لحكم يفصل بين السلطة الرئاسية والسلطة التشريعية من جهة، ويقيس إلى أي درجة احترم الرئيس التونسي الدستور في قراءته للفصل 80 وفي تأويله وتطبيقه له. فبين الرؤية الأمنية لقيس سعيد، والنظرة “القلقة” من العودة لمرحلة ما قبل 2011، انقسم العالم العربي بأكمله بين مؤيد ومعارض. ولهذا، نقول، بتحفظ، أن التجربة التونسية لم تعد ملكا وحكرا على التونسيين فقط. فذلك القرار المصيري كان سيغير نظرتنا للربيع العربي، وطريقة كتابتنا عنه، والاستثناء العربي الوحيد قد يُنزع عنه ثوبه ويُدفع لارتداء جلباب “الثورات المضادة”. كانت كلها تأويلات وتصورات راودت عقل المواطن التونسي والعربي، بحيث كانت وشيكة من إعادة بناء جدار الخوف الذي هدمه ذلك الاستثناء.

بعد تعيين نجلاء بودن كأول رئيسة حكومة في العالم العربي وتقليدها منصب مسؤولية سيفتح الباب ربما أمام تجارب مجاورة أخرى، اختلطت المشاعر بين “إشادة” بهذا، و”خشية” من ذاك. فهنالك من رأها نقطة منيرة في عتمة مرحلة ما بعد الفيروس التاجي، وهنالك من اعتبرها ورقة سياسية لعبت بتفان وبامتياز من أجل سد الثغرات الناتجة عن “القرار الأمني”. فرغم الإشادة بتجربة “قرطاج” في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”، أظهرت الأزمة الأخيرة الحاجة لمؤسسة دستورية قضائية تعتبر من ركائز الأنظمة الديمقراطية في العالم للعب دور الحكم في الحالات الحرجة والحساسة في مسارات الأمم.

في ظل هذه الأوضاع، يظل مستقبل تونس غامضا على المستويين السياسي والاقتصادي. فالمواطن التونسي سيبحث أولا عن لقمة عيش وعن قطعة خبز ستضمن له وجوديته للدفاع عن حقوقه السياسية في المرحلة الثانية من القصة. لأن أول ما يبحث عنه الفرد منذ حقبة الإنسان العاقل أو ما قبل ذلك، هو تأمين قوت يومه لضمان استمرارية وجوديته. ولا ينقص قولنا هذا من مسألة حقوقه الطبيعية والمتمثلة في ضمان استمرارية مكتسبات ما بعد “الربيع العربي”. تلك المكتسبات التي دفعتنا لكتابة هذا المقال.

لهذا، تظل الحكومة الجديدة ملزمة بتعديل البنية المؤسساتية بهدف تفادي انزلاق تونس من جديد في مواجهة داخلية كما سبق وحدث بين الرئيس قيس سعيد وحزب النهضة، بحيث أخذ الطرفان في تبادل التهم إلى أن وصل الأمر لحد تعطل عمل المؤسسات. وفي الأخير، يبقى من الصعب التكهن بما ستمليه قادم الأيام، ولكن ما هو مؤكد، تظل تونس رمزا لأحداث “الربيع العربي” للعديد من المواطنين بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ومستقبلها هو مستقبل كتاباتنا وتصوراتنا واستدلالاتنا. فنجاح تونس اقتصاديا وسياسيا يعني أن جهد المواطن المبذول في خرجاته للشارع في سنة 2011 لم يذهب سدا رغم كثرة الانتكاسات والصدمات في التجارب الأخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر محفوظة