العالم من حولي

مصر وسد النهضة

تعد المنطقة العربية من أفقر أقاليم العالم مائياً، ويضاف إلى ذلك أن الأنهار الكبرى المارة بدولها تنبع جميعاً من أراض غير عربية، كما أنها في الوقت ذاته من أكثر مناطق العالم نمواً بالسكان، وهو ما يعني أن موارد المياه الشحيحة أصلاً هي أيضاً في تناقص مستمر مقارنة بالاحتياجات المتزايدة.
وفي هذه الأيام التي يتنامى فيها القلق المصري نظراً لفشل مباحثات سد النهضة واقتراب موعد الملء الثاني لبحيرة السد، ربما علينا أن نستحضر التجربة السورية مع الجفاف. ذلك أن مشروعات السدود التركية على نهر الفرات تسبق نظيرتها الأثيوبية زمنياً بفارق كبير، كما تعد التجربة السورية أكثر اكتمالاً إلى حد بعيد نظراً لأسبقيتها الزمنية وحيث تداخلت آثار الجفاف الاصطناعي بالفعل مع الواقع الاجتماعي السياسي لسوريا بحيث لا يمكن فصلها عن الأحداث السورية في العقد السابق.
لقد شهدت سوريا في السنوات التى سبقت أحداث ثورتها جفافاً طبيعياً غير مسبوق، وصاحبه في الوقت نفسه جفاف اصطناعي ناجم عن السدود التركية على نهر الفرات. وبالرغم من تعدد الأسباب التي أفضت إلى الانفجار الاجتماعي هناك، وإلى الحرب الأهلية التي أعقبته، فإن توابع ذلك الجفاف وما أنتجته من آثار على الوضع الاجتماعي والديموغرافي قد لعبت دوراً هاماً في تشكيل البيئة الحاضنة للثورة، حيث لعبت آثار الجفاف دور المحفز الذي ينشط الإشكاليات المتجذرة في البيئة السورية ويزيد من حدة تفاعلها معززاً من فرص الانفجار الاجتماعي.
عبر سنوات عدة، أنتج الجفاف الطبيعي والاصطناعي موجات هجرة من الريف إلى المدن، مكوناً بيئة تتفاعل فيها مشكلات مزمنة ناتجة عن الاستبداد السياسي والفساد والطائفية وتوريث السلطة، بينما تلعب آثار الجفاف ممثلة في الهجرة والبطالة دور العامل المنشط الذي يزيد من حدة التفاعل البشري مع تلك الإشكاليات السياسية المزمنة.

وعلى الرغم من أنه لا يمكن إنكار خصوصية الحالة السورية، وتداخل الأسباب المحلية الموضوعية مع التدخلات الخارجية التي لعبت دوراً كبيراً في هندسة الحراك الاجتماعي، ولاحقاً في استغلال الفوضى الناتجة عنه في نشر الحركات المسلحة داخل البلاد، إلا أن مجموعة العوامل الأساسية التي دفعت في اتجاه الحراك هي مجموعة عوامل متوافرة تماماً ربما في كل الدول العربية. لذلك فإنه حتى مع وضع تلك الخصوصية في الاعتبار، تعد التجربة السورية في نفس الوقت نموذجاً للكيفية التي قد تتفاعل بها مشاكل الشرق المتراكمة ذات البعد السياسي، مع الظواهر الطبيعية ممثلة في الجفاف والفقر المائي والاحتباس الحراري، لكي يحدثا معاً أثراً انفجارياً قد يؤدي إلى تفكك مكونات المجتمع وتحلل الدولة.
السؤال الهام هنا هو إلى أي مدى يمكن أن ينطبق ما سبق على الحالة المصرية.
يختلف المشهد المصري عن نظيره السوري من نواح عديدة، وهو ما يتجلى بوضوح في المآلات المختلفة للحراك الاجتماعي في الدولتين، حيث نجحت القوات المسلحة المصرية في احتواء المد الثوري ومواجة مخاطر تفكك الدولة وانتشار الميليشيات وما كان سوف يستتبع ذلك حتماً من تدخل دولي مباشر.
إلا أن ذلك النجاح في إدارة الأزمة لا يعني أن الأسباب السياسية والاجتماعية التي فجرت الحراك الاجتماعي المصري في 25 يناير قد اختفت من المشهد المصري بالكامل، فبينما تستمد السلطة السياسية الحالية مشروعيتها من نجاحها في مواجهة مشروع الإسلام السياسي الذي كاد أن يدفع بالدولة المصرية نحو التفكك، إلا أنها لا تستند إلى عقد اجتماعي قابل للاستمرار، بما يعنيه ذلك من وجود استحقاق مؤجل لا يمكن تخطيه ممثلاً في الاحتياج إلى مشروع سياسي للانتقال إلى جمهورية ديمقراطية ذات آليات لتداول السلطه وضمانات للحريات الأساسية وسيادة القانون.
وفي غياب نظام سياسي قابل للاستدامة فإن ذلك الاستحقاق المؤجل يمكنه أن ينتج بيئة حاضنة للأعمال الاحتجاجية في حالة توفر عناصر منشطة ضاغطة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما تعمل الدولة جاهدة لتحييده من خلال حركة العمران الهائلة التي تشهدها البلاد. إلا أن ذلك النشاط التنموي المحموم، وبالنظر إلى الزيادة السكانية الهائلة والفقر المائي القائم بالفعل، لن يكون قادراً على التعامل مع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للجفاف الاصطناعي الناتج عن ملء خزان سد النهضة بدون اتفاق ملزم يراعي الشواغل المصرية.
من هذا المنطلق، فإننا لا نبالغ إذا تعاملنا مع قضية آليات ملء وتشغيل السد الأثيوبي باعتبارها من قضايا السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي في مصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر محفوظة