قلم حر

الإسلام والهوية

أحدثت الرسوم الكاريكاتورية لمجلة (شارلي إبدو) أثراً سلبياً على الأقليات الأوروبية المسلمة، وأيضاً على الرأي العام في الدول ذات الأغلبية المسلمة في العالم، وذلك فضلاً عن سقوط ضحايا في حالات العنف التي أعقبتها.
لقد كان ما أعقبها من عنف محسوب على الأقليات الإسلامية، وأيضاً من أعمال احتجاجية من الجانبين، دالاً على حدة الاستقطاب والتباين في المواقف تجاه قضايا جوهرية مثل حرية التعبير واحترام الأديان وحقوق الأقليات، بالإضافة إلى قضايا الاندماج والتعايش.
وكان من الطبيعي أن تنطلق الرؤية الغربية لهذه الأحداث من التجربة التاريخية والثقافية لشعوبه، وكنتيجة لهذا فقد أغفلت هذه الرؤية بعض خصوصيات العملية التاريخية التي مرت بها بلدان الشرق الأوسط، وأيضاً خصوصية الأوضاع الاجتماعية والثقافية للأقليات الإسلامية في أوروبا.

ولهذا السبب فإنه بالرغم من استحواذ قضية حرية التعبير على الجانب الأكبر من الرؤية الغربية تجاه الكيفية التي تعاملت بها الأقليات الإسلامية مع الرسوم، فإنها لم تضع في الاعتبار بعداً آخر قد يكون هو الأكثر جوهرية في فهم ما جرى. وأعني هنا دور الإسلام بين معتنقيه كصانع للهوية وليس فقط كديانة.
في الوقت الذي تطورت فيه العلاقة بين المجتمع الغربي والدين، ولا أقول فقط بين الدولة والدين، نحو وضع الدين في مكان روحي يؤدي فيه دوراً عقائدياً واجتماعياً له حدود واضحة، فإن الإسلام يلعب دوراً مغايراً تماماً بين الأقليات الإسلامية في الغرب، ويمكن قول الشيء نفسه عن دور الإسلام في المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية. حيث يتخطى دور الإسلام في الوقت المعاصر دور الديانة ليلعب دوراً يشبه دور الهوية القومية لمعتنقية.
ويعود هذا إلى عوامل تاريخية قديمة وحديثة أحدثت أثرها لإعادة صياغة الوعي الجمعي بالإسلام بين معتنقيه ليصبح عقيدة جامعة تقوم بتشكيل هوية الإنسان داخل المجتمع وتضبط علاقته به، وتخلق هوية ذلك المجتمع وتضعه في مواجهة الآخر (العالم الخارجي)، وهي العملية التي تؤدي إلى تشكيل وعي الإنسان بماهيته وبمحيطه وتمنحه شعوراً بالتضامن في مواجهة العالم المختلف وبالانتماء للمجتمع الذي يرتبط به بحكم العقيدة.
تجد تلك العوامل المؤسسة لهذا الوعي جذورها البعيدة في العملية التاريخية التي صاحبت ظهور وانتشار الإسلام وارتباطها الوثيق بتأسيس الدولة الإسلامية. كما تجد أيضاً جذوراً معاصرة في انهيار القومية العربية وفشل الدولة القومية وفي اتجاهات السياسة الدولية التي سعت إلى خلق دور وظيفي للإسلام السياسي بهدف مواجهة الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى الفشل الحضاري للمجتمعات الشرقية وما صاحبه من إشكاليات التعامل مع الحداثة، وهي العوامل التي أنتجت معاً احتياجاً لهوية بديلة عن الهوية الوطنية لملء الفراغ.
ويكتسب الاحتياج لهوية بديلة أهمية خاصة في حالة الأقليات الإسلامية في أوروبا نظراً للتحديات التي تواجهها تلك الأقليات فيما يتعلق بمكانها في الهرم الاجتماعي الاقتصادي وأيضاً بدرجة التقبل المجتمعي لها.

بهذا المعنى فإننا نستطيع أن نتوقع أن أي نقد موجه للإسلام أو لرموزه لن يفهم من قبل المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة باعتباره انتقاداً لفكرة أو لعقيدة فلسفية، وباعتباره يقع بالتالي في سياق حرية التعبير. على العكس من هذا فإن ذلك النقد سيتم استقباله على الأرجح بوصفه تحقيراً لهوية المجتمات ذات الأغلبية المسلمة وانتقاصاً من شأنها.
ومن وجهة النظرهذه، يعد تجاهل إشكاليات الهوية في التعامل مع حالات الاستقطاب الناشئة من الصدام بين الإقليات الإسلامية والمجتمعات الأوروبية مؤشراً على تفاقم سوء الفهم وزيادة الفجوة مع الوقت.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر محفوظة